من أرشيف الذاكرة .. أنا الطفل الحافل بالعجب والمأسور بالعاطفة
يمنات
أحمد سيف حاشد
– أنا ذلك الطفل المحب، مرهف الحس و الوجدان .. لازلت أذكر و أنا أضع حبوب القمح و الذرة قرب بيوت النمل لتقتات، و تعيش برخاء أكثر، و تعب و ضنك أقل .. كنت أضع الحبوب على أبواب بيوتها حتى لا تذهب بعيدا، و تتعرض للدوس تحت أقدام البشر، و السحق تحت حوافر واظلاف الماشية..
– أنا من كان يساعدها في بناء بيوتها الغائرة في الطين، و أحصّنها بالأحجار حتى أقيها من خراب السيل، و غمر المطر، أو هذا ما كنت أروم مما أفعله..
– أنا ذلك الطفل الذي جمع بعض النمل الشارد و التائه، و بناء لها مستوطنة، داخل صفيح علبة اللبن “النيدو” الفارغة، بعد أن ملاها بعجين الطين اللين، و بناء فيها مخازن، و ملاء تلك المخازن بالحبوب، حتى لا تموت و لا تجوع، و لا تهجر ديارها..
– أنا ذلك الطفل الذي حرس النمل و رعاها أياما و أسابيعا، و عند سفره ذهب بعلبة الصفيح إلى مكان آمن و قصي، و غرسها في أرض أبيه، و أمّن لها وفرا من الحبوب لتقتات و تعيش أطول وقت ممكن، رغم ضجيج الخالة، و معارضتها لما أفعل، حتى بديت أمامها كالطفل المختل أو المعتوه..
– أنا من وضع مصيدة للفئران .. و في الصباح وجدت الفأرة هامدة، و قد وقعت في قبضة المصيدة الضاربة حديدها على عنقها المخنوق، و المسنود من الأسفل بأسنان حداد، و قد فاض روحها، و فارقت الحياة، ربما منذ ساعات..
– شاهدت فأرا صغيرا بجوارها، يكاد يكون لصيقا بها في مشهد حميمي مؤثر .. شاهدته و كأن الحسرة تتملكه و تشل قواه .. رأيته يتنفس بحزن و حيرة عميقة .. توقعت أن يهرب لمجرد أن يراني و أنا أقترب منه، و أحاول أن أستثير فيه غريزة الهروب و النجاة، لكنه بدأ لي غير مبالي و غير مكترث .. رفض الهروب أو مبارحة المكان .. تسألت مع نفسي: هل هو قليل الخبرة بالموت و البشر..؟! أم أنه لم يأنس إلا بالبقاء جوار أمه المخنوقة، و استحالة فراقها، حتى و إن لحق بها..
– تأثرت بالمشهد، و ساحت من عيوني دموع سخينة .. رجوتُ الصفح من ضحية فارقتها الحياة، و لم تعد تقوى على الصفح و الغفران .. حاولت أن أكفّر عن جريرتي بإطعام صغيرها، و تحريره بنقله إلى مكان، بإمكانه فيه أن يقتات و تشتد قواه و يعيش حرا طليقا..
– تمنيت يومها أن أرثي الأم القتيلة بقصيدة .. ندمت على فعلتي أشد الندم .. حزنت كثيرا لهذا القدر، الذي بدا لي قاسيا و غير مبالي .. دعوت الله أن يغفر لي، و قرأت لروحها سورة الفاتحة، و سورة الإخلاص، و شيعتها بمراسيم دفن مهيب .. رحلت هي إلى باريها، و بقي السؤال إلى اليوم ينهش في رأسي المنبوش، و ينقر في ذاكرتي المنهكة، بمنقار من حديد..؟! لماذا يحدث كل هذا..؟! الحقيقة أنه كان أكثر من سؤال، و أكبر من حيرة، و ألغز من لغز لم أجب عليه حتى يومنا هذا..!!
– و الشي بالشيء يذكر .. حالما صرت كبيرا و خبرت الحياة أكثر، لم يتغير حسّي المرهف .. في العام 2005 إن لم يكن في العام الذي يليه .. حدثت حالة مماثلة، في عمارة “الفاقوس” بصنعاء، بعد أن وضع أحد أبنائي دون علمي مصيدة للفئران في البيت التي أقيم فيها؛ فأمسكت بيد أحدى الفئران، و العجيب أن عدد من الفئران ظلوا يحومون حوله، و يحاولون فعل شيء ليس بمقدورهم فعله، و ربما فهمه .. كانوا يتوجعون لما أصاب رفيقهم، و ربما يحاولون إنقاذه، أو هذا ما كانوا يرجونه في تلك اللحظة..
– عندما رأيت هذا المشهد، هرعت لإطلاق الفأر الواقع يده في قبضة شرك المصيدة، و فضلا عن ذلك حرصت على نجاة جميع الفئران الذين كانوا حوله أو على مقربة منه .. إنهم يستحقون النجاة لوفائهم .. يومها تذكرت حكمة ذلك القائل: “خُلقت القطط لتأكل الفئران، وخُلقت الفئران لتأكلها القطط”.
– أنا الطفل الحساس و المرهف الذي كنت أمنع أمي أن تذبح دجاجة لتعينني على المرض .. معالجة المرض بمرق الدجاج و لحمها، كانت بالنسبة لي أشد عليّ من معالجة المرض بالكي و شواء جلدي بالنار..
– كنت أشعر بسعادة غامرة، و أنا أطيل في عمر دجاجنا، و أكتفي ببيضها .. كنت أشعر براحة عميقة، و أنا أرى الدجاج تعيش، و قد أنقذتها من مصير ذابح .. كانت تغمرني السعادة، و أنا أسمع نقنقتها طربة في اليوم الذي يلي يوم إنقاذها، و أراها مشرقة عاشقة للحياة، و أشعر مليا أن الحياة أولى وأحق من الموت و المرض..
– أنا ذلك الطفل الذي تملك يوما أنثى قرد صغيرة أهدتني إياها إحدى العجائز، أو ربما اشترتها لي أمي بعد أن لاحظت تعلقي بها من النظرة الأولى .. الحقيقة لم أعد أذكر كيف تملكتها، و لكن أذكر إن السعادة كانت تغمرني إلى حد يفوق الوصف و التصور..
– كانت هذه “القردة” تلاطفني و تبادلني مشاعر الود و البراءة .. كانت تملأ فراغي و تجلب لي كثير من الفرح و السعادة و العجب .. كانت تملأ حياتي بهجة، و ربما أعوضها و تعوضني كثير من الحنان المفقود .. كنت أحبها بجنون .. تأسرني و آسرها بحميمة تغمرنا و تفيض.. كنت أهتم بها إلى حد بعيد، و كانت هي أيضا تهتم بي على نحو لا يصدق..
– جاء والدي من عدن، و أول ما شاهدنا تدرعه ألف شيطان .. ضربني و ضربها بشدة لا تعرف الرحمة .. كنت جلدا و قادرا على احتمال الضرب، غير أنني غير قادرا على فراقها .. أرغمني مكرها على تركها للجبل، و المصير المجهول..
– كانت الفكرة لدي و التي سمعتها من قبل أن قطيع القرود في الجبل لا يقبلون بـ”قردة” من خارج القطيع .. كانت الفكرة التي لديّ أن القرود سيأكلونها، لأنها غريبة عنهم، و لأنها من خارج القطيع، و لأن رائحة البشر تظل عالقة فيها و لن تفارقها، و لن تنطلي عليهم حتى محاولتها لإغوائهم .. لكل ذلك كنت أتخيل مصيرها فاجعا و مؤلما و وحشيا..
– عشت ألما بالغا ربما أضعاف الألم الذي كنت أتخيل إنها ستعيشه .. عشت كآبة تشبه كآبة الحداد .. عشت حسرة لا حدود لها .. كنت أشبه بمن فقد عزيز حميم لا يستطيع العيش دونه .. حميم غيب الموت صاحبه، أو حبيب غيب الموت محبه إلى أبد الآبدين..
– كنت أتخيّلها و هي في الجبل تعاني الجوع و العطش, و يعصرها ألم الفراق، و كثير مما لا تطيق من التيه و الفقدان، و المصير المجهول، الذي أغلب الظن سيكون فاجعا و أليما..
– كنت أعاني أكثر مما أحتمل .. كنت أشعر أن جسمي النحيل بات محطما و مهدودا .. كان خيالي يسرح بعيدا مستقصيا معاناتها المريرة .. كان مصابنا جلل، و كانت معاناة كلانا أكبر من مهول..
– كنت أتخيل و هي تلوذ إلى قطيع القردة تسترحمهم و ترجوهم، فيما القردة تهاجمها ببشاعة، و تنهشها بشراهة، و تمزق جلدها، و تغرس أنيابها في جسدها النحيل، و تتنازع أوصالها و أشلاءها.. عشت ألم و حسرة لا توصف، و لا تحتمله ذاكرتي المنهكة..
– فكرت بالانتحار كثيرا، و في إحدى المرات كدت أن أفعلها، و لكن لسبب غير تلك القصة، و إنما لسبب ذكرته في موضع آخر، و ربما لتراكم المعاناة في الوعي و اللاوعي، كان سبب المحاولة الظاهر، أشبه بالقشة التي قيل عنها قسمة ظهر بعير، فما بال بظهر طفل لازال غصنا لم يقوَ عوده بعد على الأحمال الثقال..
– كنت أشعر في بعض الأوقات أن وجودي في الحياة غير مبررا، أو إنه جاء زائد عن الحاجة، أو أنه جاء عن طريق الخطأ .. حب أمي فقط كان دوما مانعا لتهوري، و كان العزاء الوحيد الذي يبقيني حيا، أو يجعلني أقاوم و أستمر في هذه الحياة مستباحا لمعاناة ليس لها آخر .. كان حبها و الموت في صراع مرير، غير أن الحب كان ينتصر .. كان حب أقوى من الموت..
– كنت لا أتصور أن أترك أمي وحيدة و أرحل .. أشعر أنها لن تتحمل فراقي و أنها ستموت كمدا من أجلي .. كنت لا أتخيل هذا الفراق الأبدي .. لقد كنت أتخيل أن فراقي لأمي بالموت، يشبه ذلك التفريق الذي أرغمت عليه، و فرضه أبي عنوة و قوة، بيني و بين تلك “القردة” التي أحببتها بقوة و حميمية تفوق الوصف..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.